رسالة غبطة البطريرك صفير الميلادية التي وجهها اليوم الى اللبنانيين

رسالة الميلاد 2005

وجه البطريرك الماروني الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير الى اللبنانيين، رسالة ميلاد 2005 بعنوان "إن هيرودس مزمع أن يبحث عن الصبي ليهلكه"، فقال فيها:

1- كان يسوع المسيح، مخلص العالم، موضع مطاردة وانتقام وتصفية جسدية، منذ مولده. وكان هيرودس وأعوانه يترقبونه ليوقعوا به خوفا منه على سلطة دنيوية يملكونها، وهي، لا محالة، زائلة. وكان ملاك الرب الذي بشر بمولده يسهر على سلامته، فأتى في الحلم يخاطب يوسف أباه بالتربية، ويقول له: "قم خذ الصبي وأمه، واهرب إلى مصر، وابق هناك، لأن هيرودس مزمع أن يبحث عن الصبي ليهلكه".

وهذا ما فعله يوسف. وهكذا عرف المسيح التهجير والتشريد، منذ أن كان طفلا، ليشابه البشر في كل ما يعانون على أرضهم من محن وويلات. وغالبا ما قابله بنو قومه، وأحيانا أقرب الناس إليه، بالحذر، والنقد الجارح، حتى أضمر له أعداؤه الألداء الموت على الصليب. وهذا ما جرى منذ ما فوق الألفي سنة.

2- وما كان الهرب إلى مصر سوى واقعة، تعتبر واحدة، من سلسلة النكسات التي تعرض لها يسوع المسيح، فادي البشر، منذ ولادته حتى موته على الصليب. لقد ولد في مزود كأحقر ما يولد أفقر الناس. وأول من عرف بولادته رعاة بسطاء كانوا يحرسون قطيعهم في تلك الليلة، في بيت لحم، فظهر ملاك الرب، وهدأ روعهم بقوله لهم: "لا تخافوا! ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون للشعب كله. لأنه ولد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب". طمأنهم فأتوا وسجدوا له.

3- وسط هذا الفقر على الأرض، ظهر مجد السماء. "وانضم فجأة إلى الملاك جمهور من الجند السماوي يسبحون الله ويقولون: المجد لله في العلى، وعلى الارض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر". وغنت الكنيسة بمجد الله في تلك الليلة قائلة: "العذراء وضعت في العالم من هو أبدي. والأرض قدمت مغارة لذلك الذي يرهب الملائكة الاقتراب منه. أن يصير الله طفلا، فهذا ما يفوق الإدراك. وقد فعل ذلك لكي يفهمنا ما قال حين قال: "من رفع نفسه يواضع، ومن واضع نفسه يرفع"، ولكي نعمل بوحيه. وفعل ذلك أيضا لكي نرسخ في أذهاننا قوله: "مولود الجسد هو جسد، ومولود الروح هو روح". وأضاف موجها قوله لنيقوديموس: "لا تعجب لقولي: عليكم أن تولدوا من جديد أي من الماء والروح". ذلك أن على الانسان أن يولد من الله، على ما أكد الانجيلي يوحنا: "كل الذين قبلوه، وهم المؤمنون باسمه، فقد أعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله، هم الذين، لا من دم، ولا من رغبة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله ولدوا". ومن أراد أن يكون حقا ابنا لله، "يجب أن يولد من فوق".

4- وسر الميلاد يتم فينا عندما يأخذ المسيح يتكون فينا، على ما يقول بولس الرسول الذي نادى أهل غلاطية بقوله لهم: "يا أولادي الذي أتمخض بهم ثانية حتى يتصور المسيح فيكم ". والميلاد هو سر هذه المبادلة العجيبة بيننا وبين الرب يسوع. حقا انها مبادلة عجيبة عندما نفكر بأن خالق الجنس البشري، أخذ جسدا بشريا، فولد من مريم العذراء، وصار إنسانا دون وسائل البشر، وتكرم علينا بأن رفعنا إلى مقام الألوهة. إن القديس ايريناوس يقول: "هذا هو السبب الذي من أجله صار الله انسانا، وابن الله، ابن الانسان. وهو أن يصبح الانسان ابن الله بدخوله في مشاركة مع الكلمة، وبقبوله البنوة الإلهية". وفي المعنى عينه قال القديس اتناسيوس: "صار ابن الله انسانا ليجعل منا الله".

5- اذا كان الله قد خلقنا ورفعنا إلى مقامه، فجعل منا آلهة بدليل قول يسوع المسيح لليهود الذين اتهموه بالتجديف على الله، وبجعله نفسه إلها، وهو انسان، فأجاب: "أما كتب في توراتكم: أنا قلت أنكم آلهة"؟ ونطرح السؤال: "هل تصرفنا دائما تصرف أناس يعرفون ما خلع الله عليهم من كرامة، فرفعهم إلى مقامه، فجعلهم أبناء له بالتبني، وغرس فيهم بذار ألوهة؟ هل عبدناه تعالى كما يجب أن يعبد، وعملنا بتعاليمه الإلهية؟ وحافظنا على خشيته في قلوبنا؟ إن ما وصلنا إليه في وطننا من سوء حال يوجب علينا ان نطرح على أنفسنا مثل هذه الاسئلة، وأن يجيب عليها كل منا في قرارة ضميره، لنعرف إلى أين نحن ذاهبون. 6- تنفسنا الصعداء، عندما أعانتنا السماء، فساعدت على وضع حد لما عرفناه من مآس وفواجع طوال ثلث القرن المنصرم، وقلنا: "الحمد الله! لقد انتهت فصول المأساة. ولكن المأساة لم تنته، على الرغم مما كان من تحسن في الأوضاع ملموس. فاستعدنا قرارنا الحر، وأخذنا مصيرنا بيدنا، وشعرنا بأننا مسؤولون عن ذواتنا، وعن بلدنا، وعن موقعه في هذا الشرق، وفي العالم. ولكن هناك قوى خفية، تخشى نور الشمس، فتعمل في الظلام، لتزرع الفتنة، وتنشر الخوف، وتقوض أركان الاستقلال اللبناني، لتثبت أن اللبنانيين ليس باستطاعتهم أن يحكموا ذاتهم بذاتهم، أو قد فقدوا القدرة على القيام بذلك، لاستكانتهم إلى سواهم ليقوم مقامهم في ما يجب أن يكون دورهم، وما فيه كرامتهم. وإلى هذا مرد هذه التفجيرات المتتالية، والاغتيالات المتكررة، التي تحصد في غالب الأحيان قادة الرأي، وأهل الفكر، لتحرم الناس من أولي أمرهم، فيصبحوا قطعان غنم، لا راعي لها. وهذا ما كان يقوم به النظام الشيوعي الذي زال من بلد منشئه، لكنه لا يزال فاعلا في بعض بلدان المنطقة.

7- هل قليل أن يقع عندنا خمسة عشر تفجيرا في أقل من سنة. فلا نلملم جراحا أصابتنا، حتى نفاجأ بحدوث جراح جديدة تمزق أجساد أحد مواطنينا؟ وكم تهدم من مؤسسات تجارية، وسياحية، وسكانية؟ وكم سقط من ضحايا كلها في مقتبل العمر، وسخاء العطاء؟ ولكن التباكي لا ينفع، ولا يفيد. وخير ما بالإمكان فعله لوضع حد لهذه الحالة من الضياع، رص الصفوف، ونبذ الخلافات ، وتوحيد الرأي، لوضع خطة رشيدة تجمع جميع اللبنانيين على هدف واحد هو إعادة الطمأنينة إلى النفوس، ونشر السلام في الربوع، لاستعادة جميع الطاقات التي هجرت لبنان لتتضافر الجهود، وتمتد الأيدي إلى المصافحة الأخوية، وإلى العمل معا بثقة وإخلاص، لترميم ما تهدم في النفوس، قبل ترميم ما تهدم في البناء والمؤسسات. ومتى خلصت النيات وقطعت الطريق على أهل الفتن، وزارعي الشقاق والدمار والموت، يستعيد اللبنانيون ثقتهم بذاتهم وببلدهم، ويمدون أيديهم إلى جيرانهم ليتعاونوا معهم على قدم المساواة لما فيه خيرهم المشترك، ومستقبل أجياله الطالعة.

8- وإنا، اذ نسأل الرب يسوع، في ذكرى ميلاده المجيد بالجسد، أن يمكننا من بلوغ شاطئ الطمأنينة، وإدراك ميناء السلام، نبتهل إليه أن يعيد على جميع اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، عديد أمثال هذا العيد، والقلوب مطمئنة، واعلام السلام ترفرف فوق لبنان والمنطقة والعالم".

23/12/2005