رواية مشهد القمع والتعذيب مرة جديدة 

لعلّ المسيحيون يتعلمون من اخطائهم

ويكفون عن سبيل المراهقة السياسية والتبعية للاخرين

رواية فادي الشاماتي

كتابة بيار عطاالله

لم يعرف المسيحيون في لبنان قبل العام 1990  مفردات مثل "نضال، قمع ، جلاد، قهر، معارضة، مقاومة سرية"، و غيرها من المفردات التي تنبئ بحال المعاناة الاجتماعية والسياسية لجماعة ما في ظل هيمنة جماعة اخرى عليها. حتى تاريخ الاجتياح السوري للمناطق الشرقية في 13 تشرين الاول 1990 كان اكثر المسيحيين ذهنيا في موقع السلطة او الشريك في الحكم ولم تكن هناك حاجة الى الاتسعانة بالمفردات الثورية لتبرير مشروع نضال ما ضد قوة مهيمنة. واقتصر "الوعي الثوري" لدى المسيحيين على بعض سكان الاطراف الذين اختاروا الانتماء الى احزاب اليسار اللبناني واخصها الحزبان الشيوعي والسوري القومي.احتاج الامر الى مدة من الزمن كي يدرك المسيحيون ان النظام السوري وضع يده على بلدهم، وان ساكن قصر بعبدا ما عاد حرا في خياراته التي تستجيب لتطلعات الرأي العام المسيحي المتجذر في فكرة لبنان الوطن والكيان.

انصار "التيار الوطني الحر" كانوا اول المبادرين الى "مقاومة" النظام الامني السوري – اللبناني ثأرا لقائدهم العماد ميشال عون الذي نفي الى فرنسا في مشهد سوريالي استخدمت فيه البحرية الفرنسية بوارجها وطائراتها. واحتاج الامر الى تفجير كنيسة سيدة النجاة واعتقال قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع، كي يدرك النصف الاخر من المسيحيين ان الامور دارت عليهم جميعا وان لا فرق بين "عوني" و "قواتي".

في ما يلي قصة فادي الشاماتي احد كوادر "القوات اللبنانية" الذي سجل رقما قياسيا في عدد مرات الاعتقال والتوقيف الاحتياطي والملاحقة والتواري عن الانظار بتهم مختلفة قاسمها المشترك رفض الشاماتي الاعتراف بالوضع القائم والعمل على مواجهته رغم انعدام التكافؤ في القوى بين الة القمع العاتية للنظام ومعارضيه العزل الا من احلام الانتصار التي اخذت تتسلل مع كل موجة اعتقالات كانت تشن ضد المسيحيين . وهكذا دخلت مفردات القمع والاعتقال والمقاومة والمواجهة والديموقراطية والمعارضة وحقوق الانسان الى قاموس خطاب الرأي العام المسيحي في لبنان. وه اذ يتذكر ما جرى معه اليوم فأنه يصر على ترداد إنّ الديمقراطيّة والاعتراف بالآخر منطلق لكلّ عيش في كلّ وطن. إنّ من العقْم ان نردّ على الحقد بالحقد. وهو يفاجئ محدثه ان ما جرى معه ورفاقه لم تؤَدِ الى الحقد والكره ومشاعر الإنتقام العارمة، بل الى المزيد من القناعة بأهمية الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وآراء الآخرين، كوسيلة جوهرية لتطور مجتمعنا ورقيّه وإرساء التناغم بين الجماعات التي تكوّنه.

 بدأت قصة فادي الشاماتي إثر الانفجار الذي تعرضت له كنيسة سيّدة النجاة (الذوق) بتاريخ 27 شباط 1994 حين بدأت حملة إعتقالات واسعة طالت عدداً كبيراً من "القوّاتيين" . وهو اعتقل في غدراس ليل 21 نيسان 1994  بعد وقت قصير من اعتقال قائده سمير جعجع. وحشر مع اخرين في وضع القرفصاء في شاحنة نقلتهم بسرعة جنونية، ووسط سيل من الشتائم الى ثكنة صربا حيث اصعد ورفاقه الى آلية اخرى كالغنم، على ما قال. نقلوا جميعا الى مبنى الدائرة الاعلامية في «القوات اللبنانية»، التي كان «الجيش» قد دخلها قبل فترة وجيزة. وهناك ُنزعت اشرطة الأحذية وأحزمة الخصر وعصبت أعينهم بأقمشة نتنة،وكبّلت أيديهم الى الخلف. ونقلوا الى الطابق الثاني من المبنى حيث ادخلوا الى غرفة واسعة، إتضح انها تعجّ بالمعتقلين نساء ورجال لا فرق معصوبين الأعين، مكبّلي الأيدي ووجوههم الى الحائط وقوفاً لساعات لا تنتهي. بعد فترة أُدخل الى غرفة جانبية حيث بوشِر بتحقيق أوّلي معه من قبل ضباط لم يرَ أحدا منهم، تناول التحقيق أسئلة سريعة عن مسؤوليته ورتبته وراتبه، والأوامر المعطاة له ومخازن الاسلحة والاعمال الارهابية التي شارك فيها. يتذكر ان كل هذا التحقيق كان يتم في جو من السخرية والإستهزاء .

تذكر بألم، ان هذا المشهد الاول من مسرحية الإحتقار والإذلال افهمته شيئاً واحداً، وهو عدم وجود ضوابط ومعايير قانونية وانه واقفٌ على باب المجهول. بعدها نقل مجدّدا وكان الفجر بدأ يلوح، فجر الجمعة 22 نيسان 1994 نقل مع عدد من رفاقه وبالسرعة نفسها الى مبنى وزارة الدفاع اللبنانية .

في معتقل الوزارة

قدّر انه في طريقه الى وزارة الدفاع من خلال تتبّعه للمستديرات والمفارق الرئيسية ذهنيا، فالعصبة القاسية على العيون لم تترك مجالا لمشاهدة اي شيء . وفي سجل "القوات" ان عددا من مناصريها ذهبوا الى الوزارة وعادوا محطمين من فرنسوا ابي راشد،  الى حبيب النمور وريمون ناضر ونادر نادر وشربل مطر. وبعضهم على ما قال، قضى في طريق عودته الى المنزل بضعة أيام في المستشفى . ومنهم سمع الشاماتي عن البلانكو والكرسي والكهرباء وأساليب التعذيب. وادرك انه وصل الى وزارة الدفاع بعدما سمع جلبة العسكريين والضجة حوله. وروى انه قرر أن يكون رجلاً عليه وان عليه الحفاظ على رأسه والإحتفاظ بشجاعته، وبسرعة حاول طرد كل صورة عاطفية قد تؤثر فيه. قبل بدء التحقيق معه، أوقف في ممر طويل بمحاذاة الحائط ،ولحظات قليلة أحسّ بقشعريرة تجتاح كيانه، وتجمّد الدم في عروقه. كانت أولى الصرخات التي سمعها فاخترقت اذنيه. ويتذكرها صرخات ترافقها آنّات خفيفة متقطعة  من انحاء مختلفة. وكانت الصدمة في صرخة أحد "القواتيين" معلّقٌا على البلانكو، يتألم ويستنجد بالعذراء مريم وينادي والدته حسبه أنها بجانبه، علّها تحاكي جلاديه فيشفقوا لدموعها.

تذكر فادي الشاماتي ان التحقيق يضع المرء امام خيارين لا ثالث لهما : إما أن تستسلم وتنسحق امام رغباتهم الجامحة للثأر مقابل تخفيف معاناتك بتوفير الأكل والماء والاتصال بالأهل، وطبعاً انتفاء التعذيب الجسدي، والثمن: خيانة ما تؤمن به وقتل كل نفحة كرامة لديك. وإما ان تتمسك بشجاعتك لتصمد وتخرج بأقل قدر من الخسائر المعنوية وطبعاً بقدر أكبر من المعاناة الجسدية. والاختيار بين الاثنين اشكالية كبيرة للشاماتي الذي كان عليه اسوة بغيره ان يختار خصوصا ان سيل الاسئلة التي كانت تنهال على المعتقلين كانت لا تترك مجالا للشك في نية اصحابها واهدافهم. ومع كل إجابة بالنفي أو "لا أدري" تنهال اللكمات والركلات والشتائم. يتذكر المعتقل السابق كل التفاصيل : أول الضربات أكثرها وجعاً، وبعدها يعتاد الانسان على مفعول الالم، وهو يصف تلك الساعات الرهيبة ان حواس المرء تستنفر كاملة، في ما يمر الوقت بطيئاً كأنه دهر والمعتقل ينتظر من أية جهة ستأتي الضربة، وما نوعها؟

تذكر فادي الشاماتي محاولات الضغط النفسي ومشهد رفيقه جهاد سليمان في حالة عقلية غير طبيعية للتاثير عليه. وجهاد اعتقل قبل أيام من اعتقال سمير جعجع ومثلّوا فيه أقصى انواع العذاب – وما برحوا يهددوه اذا لم يتجاوب معهم بأنه سيصير فيه مثلما صار مع فوزي الراسي، القواتي الاخر الذي قضى تحت التعذيب (...) .

                                 

 

 

سمير جعجع معتقلا

يختلف الشاماتي اليوم مع سمير جعجع على كثير من الامور الفكرية والسياسية وهو على خلاف تنظيمي كبير معه من خلال موقعه في "رابطة سيدة أيليج" التي خرجت من رحم "القوات" لكن الشاماتي ورفاقه يتهيبون مشهد "الحكيم" اسيرا . وسرد الشاماتي انه رأى سمير جعجع واقفاً مكبل الأيدي الى الخلف ومعصوب الأعين الى الحائط. رآه للحظات واعادوا عصب عينيه . وبعدما شاهده، وعندما تركوه لفترة وجيزة، اخذت الاسئلة تراوده وكانت بداية تشكل الوعي لديه الى اهمية القضية وتجاوزها كل الاشخاص والقادة. انها حالة الشرقيين مع القائد – الرمز دوماً. ولكن المفارقة انه في اللحظات العصيبة هذه، ادرك بعمق ان القضية التي يعمل لها، لن تقف عند حياة سمير جعجع. لا ينسى الشاماتي في روايته لأحداث الاعتقال والاضطهاد مرافق سمير جعجع «رفيق الزين طوق» الذي  أبّى حتى على البلانكو ان يتعرض لجعجع ولو بكلمة .  ولا ينسى آخر رفض طلب المحقق أن يناديه باسم «سيدنا» بدلاً من «حضرة المحقق» بقوله للمحقق ان لا سيّد غير الله.

وسط هذه الحفلة الصاخبة، صراخ من هنا وأنين متقطع من هناك وتهويل محقق:«كذاب يا ما عم تقول يللي بدّي اسمعوا منك ! » واستدعاء آخر الى غرفة التحقيق وسماع عويله بعد لحظات، كان التحقيق معه يتابع. نعاس عطش، ألم وكرامة مجروحة. طلبوا منه كتابة سيرة حياته على صفحات بيضاء. وادخلوه الى احدى الزنزانات ولكنه عند تمدده على الأرض غفى فإستفاق على ركلات السجان «عطية» وشتائمه  لم يعجبهم ما كتبه، فأعاد كتابته، وتكرر النوم وبقي المشهد ذاته.

عطية السجان

لا يكتم فادي الشاماتي الما على ما تعرض له على يد من يفترض بهم حمايته واكثر ما يتذكره السجان "عطية" الذي يعرفه كل "العونيين" و"القواتيين" جيدا فهو جاهز للضرب وتعليق الضحايا على البلانكوه او وضعهم على الكرسي. ومع "عطية" تعرف كثر من شباب المسيحيين  الى «نجوم الظهر» وعرفوا كيف تكون، "ومضات براقة زرقاء تراها مغمض العينين عند كل ضربة تقع على نافوخك" كما روى الشاماتي واصفا اسلوب "الكرسي" الذي يمدد الضحية فيه على الارض وبطنه الى الاسفل، وتوضع الكرسي الخشبية على ظهره بحيث تكون مقدمتها ضاغطة على اسفل ظهره. وتطوق الكرسي بيديه بواسطة كلابات حديد. بعدها يجلس«عطية» على الكرسي من فوق ويروح يشدّها الى الوراء بشكل يخلع الجسم الى الوراء، فوراً ينقطع نفسه من جراء ضغط الكرسي على رئتيه ويشعر المعتقل بالشلل يتغلغل باطرافه ويتمنى ان يغيب عن الوعي، علّه يهرب من الآلم. ويقوم «عطية» بسحب الكرسي الى الخلف وبإيقاع متناغم مع طرح أسئلة المحققين.

يسند الشاماتي موقفه من "عطية" انه من الطائفة الثامنة عشرة في لبنان التي تعبد صنما من طبيعتين: الرتبة والراتب ويصفه انه يتمتع بإنفصام في الشخصية، لحظة يظهر رأفته تجاهك لإبراز حنان وتفّهم رؤساءه، ولحظة اخرى يستبيح دمك دون ان يرفّ له جفن، تلبية لأوامر الرؤساء .عند فتكه بك وثنيّ بامتياز، ضاحك، فرح، مندفع، وعند اعتنائه بك، ناضج، وقور، أب مستعار، والإعتناء هذا ممكن لسبب أنه بانتهائك ينتهي دوره وتنتفي لذّته المكتسبة من فتات نشوة رؤسائه، وحتى لو جيء بوالدته وطلب منه تعذيبها لفعل، في سبيل... الرتبة والراتب. فهذه الطائفة تقوم على أساس حماية المصالح ضمن دائرة مقفلة، لا تفتح حلقتها الا لأخذ المزيد. يتجاهل مناداة احدهم  المرمي في آخر الرواق، لأخذه الى المرحاض، لأنه لم يعد يستطيع الإحتمال لساعات، وعندما يفقد المنادي السيطرة ويلوّث نفسه وحواليه، ينقضّ «عطية» ليكمل معاناته بالركل والشتم، وفجأة وبعد اشباع رغباته، يعاتبه لأنه لم يناديه ليأخذه الى المرحاض. عطية»المسيحي هو أكثر عنفاً وفظاظة وتعبيراً من«عطية» المسلم، هل بسبب انتمائنا الطائفي يتبادلون الادوار ليثبتوا تعايشهم.

لا ينسى الشاماتي شيئا من ايام الاعتقال الذاهب الى قاضي التحقيق، يستحم، يحلق ذقنه، يسرّح شعره، يرتدي ثياب نظيفة ارسلها أهله و... « مثل ما وصيناك، ما تزعلنا، ايه، راجع انتي لهون». وتوصية ل«عطية» المرافق بأن يهتم به.والذي يطلب منه توضيب ثيابه ويسلّموه اغراضه الشخصية. فذاهب هو الى المنزل او الى المحكمة العسكرية.

اعتقل فادي الشاماتي 45 يوماً، مرمياً في أحد الأروقة، مكبّل ومغمّض العينين، تتآكله أعصابه، أهل لا يعلمون شيء عنه ولا يدري ما يحصل خارجاً، خسر من وزنه خمسة عشرة كيلوغراماً. قبل ان يختَم التحقيق، الذي وقّع عليه مغمّض العينين، وفي اليوم الخامس والاربعون، نودي عليه هو ورفقين غيره، حيث تسلموا أغراضهم الشخصية وُتليَت عليهم موعظة في المواطنية، والاخلاق، وطلب من دوريّة أن تقلّهم الى مستديرة الصالومي. كان الوقت ليلاً، وكل إطلاق سراح لا يتم الاّ تحت جنح الظلام، مثله مثل الاعتقال. أصعِدوا إلى الآلية ومدّدوهم في أرضها ووطئوا على رؤوسهم لكي لا تراهم السيارات السائرة وراء الآلية، حتى وصلوا الى مستديرة الصالومي. هناك تمّ رميهم من الآلية عند طرف الطريق العام حيث لا أنوار كهربائية ورحلوا بسرعة.  أوّل ما خطر على باله عندما فتح عينيه لأوّل مرّة منذ خمسة وأربعون يوماً... كلمات اغنية فيروز "طلعنا على الضو طلعنا على الريح". إستقلّ ورفاقه سيّارة أجرة لم يقبل سائقها وهومن طرابلس تناول أجرته بعدما لاحظ ما حصل .

                                                          دروس وعبر

 اعتقل فادي الشاماتي حوالى 12 مرة وجرى استدعاؤه وتوقيفه احتياطا مرات لا تحصى وفي احداها طلبه مركز الاستخبارات السورية في كفرعبيدا ، ورفم كل ذلك لم يبدل في ولائه ولا معتقده واستمر على قناعته رغم الجوع والفقر والعوز الشديد الذي عانت منه عائلته وهو خلص الى جملة دروس وعبر لخصها : آن الاوان بالنسبة لنا نحن اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين ان نتعلّم من كل الِعبر والتجارب التي حفل بها تاريخنا المشترك:

وبرأيه أن قبول الآخر كما هو والإقرار بخصوصيته هما قاعدة أساسية لكل حوار ومسعى في سبيل وطن أفضل. وان أية فئة تقبل بالظلم يقع على فئة أخرى تكون قد أقرّت ومهدّت لوقوعه عليها، ان لم يكن الآن، فغداً. وهو يعتبر ان الحرية، هي جوهر الخصوصية اللبنانية تميّز هذا الوطن عن محيطه، أسست لها كل فئاته وضحّت في سبيلها لهذا هي مسؤولية الجميع. وبرأيه  ان الوقوف دوماً بجانب الشريك في هذا الوطن هو أولى من الوقوف مع القريب في أي وطن آخر. وخاتمة درس كبير في المحبة ان التاريخ لا يُصنع بدون محبة أو حقد، فلماذا نصنع دائماً تاريخنا بالحقد؟ وان  كسب العقول والمشاعر لا يأتي عن طريق السلاح والعنف، أسلوب حوار بيننا، ولكن عن طريق المحبة وعظمة النفس والشفافية.