السياسة والدين في الدعوى على النابلسي وما خلف “الفتوى

فحص: إذا أنتج الدين الدولة أفسدها... والمؤمن صاحب حق

الثلاثاء, 07 مارس, 2006 - نوال نصر - البلد

ليست المرة الأولى التي “يفتي” فيها رجل دين في موضوع سياسي، لكنها أول مرة يدعي فيها “مثقفون” على من أفتى دينيا في الموضوع السياسي. الشيخ عفيف النابلسي أصدر ابان الأزمة الحكومية قبل أسابيع, فتوى حرّم فيها من “موقعه الشرعي” “على أي طرف سياسي شيعي، أن يدخل بديلا أو رديفا عن ممثلي حركة “أمل” و”حزب الله” في الحكومة. فرد عليه عدد من ناشطي المجتمع المدني من مختلف الطوائف, بتحرك قانوني يعدّ “سابقة” في حق رجل دين, ليس في لبنان وحسب بل وفي كل العالم العربي, قبل ان يأتي الرد على الرد, بدعوى مقابلة على المثقفين المدعين من قبل رجل دين آخر, بحجة التدخل في الشؤون الدينية التي يكفلها الدستور.

قيل الكثير عن فتوى النابلسي وقد يقال بعد الأكثر... وبين ما قيل وما سيقال يثبت أن هذه “السابقة” شرّعت الباب على ما هو أبعد من حدود “فتوى النابلسي”، لتشمل عناوين كثيرة، “سياسية بامتياز”، أفتى فيها رجال دين، مسلمون ومسيحيون، مستخدمين مواقعهم الدينية في أمور لا تمت الى الدين بصلة.

ما هي علاقة الدين في شكل عام, والدين الإسلامي بالتحديد، بالسياسة؟ وأين الحدود بينهما؟ العلامة السيد هاني فحص يسهب في الكلام حول الموضوع مستخلصا “أن الدين إذا أنتج الدولة فإنه يفسدها، لأنها ليست شغله ومن يشتغل في غير شغله يفسده، وإذا أفسدها عادت تفسده... وبالتالي فإن ممارسة الحق المدني لا تقع في دائرة التكليف الشرعي بل في دائرة الاختيار الفردي وحق الفرد في الاختيار، بناء على أن شرط الحرية هو شرط ديني إنساني”.

الفتاوى الدينية

كلام السيد فحص ينقض، بشكل أو بآخر، الفتاوى الدينية في الشأن السياسي، من عيار فتوى الشيخ النابلسي، والمطروحة “كفتوى احترازية الى كل سياسي شيعي لا يملك المسوغ الشرعي للعمل السياسي”.

من هو الفقيه الذي تتوافر فيه شروط الإفتاء والاجتهاد؟ وما الفارق بين التكليف الديني والتكليف السياسي؟ وما مدى تحوّل فقهاء الدين الإسلامي الى إسلام سياسي حزبي؟

يشرح السيد فحص أن “الاجتهاد هو مسلك شيعي اثنا عشري في الفقه، وباب الاجتهاد قد سدّ، في الثلث الأول من القرن الخامس الهجري، في المذاهب الأربعة المعروفة بالمذاهب السنية”. هذا الكلام عن سدّ باب الاجتهاد يحتاج، في رأي السيد، الى تدقيق وتحقق “فعلماء المذاهب ظلوا ينظرون في الأدلة ويستنبطون الأحكام ويختلفون ويتفقون ويعالجون الوقائع المستجدة فقهيا”.

هذا عند السنة، أما لدى الشيعة الإمامية فهناك، بحسب السيد فحص “مدرستان: واحدة تقول بوجوب الاجتهاد, وتعرف بالمدرسة الأصولية، نسبة الى أصول الفقه. وأخرى منافسة عرفت بالإخبارية، أي التي تعتمد على الاخبار ولا تستخدم علم الأصول والعلوم العقلية في عملية الاستنباط الفقهي ولا تقول بالاجتهاد... ولم يهدأ الاختلاف بين المدرستين إلا بعد صراعات مريرة”.

مدارس الفقه تعددت مدارس الفقه والاجتهاد وظهرت مدرسة “الأصولية الاجتهادية التي تعطي كل مجتهد أحقية الإفتاء. وكل مكلف لم يجتهد عليه أن يقلد مجتهدا ويلتزم العمل بفتواه، وهناك نقاش علمي في أن الاجتهاد وحده يكفي في تقليد الفقيه. أو أنه لا بدّ أن يكون الفقيه أعلم المجتهدين... والأكثر هم على الرأي الثاني، لكن ذلك لا يمنع من تعدد المراجع أو المفتين الذين يلتزم الآخرون بفتواهم اختيارا, وكل منهم في نظر من يقلّدونه هو الأعلم

علاقة الدين الإسلامي, أو أي دين بالسياسة, مسألة “خلافية” برأي فحص, “فالمعرفة بالدين تختلف من عالم الى عالم. هناك علماء يدعون الى الفصل بين الدين والسياسة، وآخرون يقولون بالتمييز بينهما على أساس أنهما حقلان معرفيان وعمليان يختلفان في المنهج وأدوات التحليل ويمكن أن يتكاملا في المحصلة، خصوصا إذا ما تم التركيز على نظام القيم الدينية... وهناك فريق لا يرى فرقا بين الدين والسياسة ويعتبر أن الإسلام يحمل مشروعا سياسيا، أي مشروع دولة دينية, مع الاختلاف العميق على تفاصيل هذه الدولة. في حين يرى آخرون ان الإسلام، والقرآن خصوصا، لم يقدم وصفا لدولة محددة، بل وصف المجتمع الفاضل والحيوي على أساس الإيمان، معتبرا أن الدولة من ضرورات هذا المجتمع وهي تختلف، باختلاف الظروف، شكلا ومضمونا”.

ثمة علاقة، تبدو وثيقة، بين الدين والسياسة، فما رأي السيد فحص؟ يجيب “السياسة، من جهة، نشاط إنساني، لا يمكن إلغاؤه أو مصادرته تحت أي ذريعة. ومن جهة أخرى هو حق من حقوق الأفراد والجماعات. من هنا يحق لرجل الدين أن يمارس دوره السياسي، والخلاف ليس هنا، إنما في أنه يمارس دوره السياسي من موقعه كمواطن أو من موقعه كفقيه أو رجل دين عموما ؟ وهنا أيضا نجد اتجاهين وسلوكين على مدى التاريخ الطويل”.

ويشرح فحص:”إذا كان المسلك أو الاتجاه التسييسي للدين والفقه لدى الفقهاء، يقوى مرة ويتراجع مرة، فالسبب في ذلك هو نجاح الطبقة السياسية أو المجتمع السياسي في إقامة دولة قوية وجامعة بمكونات اجتماعها ومتواصلة مع هذا الاجتماع. وكلما انفصلت الدولة عن اجتماعها أتاحت الفرصة أو أثارت رغبة عدد من الفقهاء في طرح البديل السياسي للوضع القائم على أساس إسلامي، أي على أساس دولة إسلامية... ومن الطبيعي أن يكون حامل هذا المشروع هو تنظيم سياسي ديني، حزب أو حركة أو تيار يلتف حول قيادة دينية معينة كما حصل في إيران من التفاف حول قيادة العلماء والإمام الخميني خصوصا، وقبلها مع حسن البنا في مصر... “.  هذا لا يعني طبعا أن ليس هناك علماء يميزون بين الدين والسياسة والدين والدولة ويقول فحص “ثمة علماء لا يرون مصلحة دينية أو دنيوية في إقامة الدولة الدينية، هذا طبعا إذا كانت ممكنة، ويقولون بناء على ذلك بالمنافاة بين الانتماء الى الإسلام والانتماء الى عصبية حزبية فئوية”.

المسلم المكلف

فحص يعطي رأيه في الإفتاء بصراحة “لا يمكن اختزال المسلم في أنه مكلف، بمعنى أنه ملزم بترك الحرام، أو القيام بالواجب، حسب الفتوى، بل هو صاحب حقوق أيضا إن لم يكن أولا. لذلك نجد أن مساحة الحلال أو المباح في النص الديني أوسع بكثير من مساحة الواجب والحرام. أي أن مساحة الحلال أو المباح في النص الديني أوسع بكثير من مساحة التكليف أو الإلزام. وهذا محقق في مجال العبادة، أما في المجال المدني فإن الواجب هو الواجب الوطني والحرام هو الحرام الوطني والمباح أو الحلال واسع جدا، بحيث يتيح حرية الاختيار والتعبير في الانتماء السياسي والانتخاب وسائر العمليات المدنية”.

الثابت عندنا أن الدين يتداخل في السياسة، وما يلفت هو أن المسلم (كما المسيحي أحيانا) يختزل في أنه مكلف وملزم بترك الحرام... من دون الأخذ في الاعتبار حقوق المسلم، حقه مثلا في ممارسة السياسة، سواء انتسب الى حركة “أمل” أم لم ينتسب وسواء أيد “حزب الله” ام لم يؤيده.

فتوى النابلسي

الفتوى التي صدرت عن الشيخ النابلسي لم تعط المسلم، أقله في تقدير مقدمي الدعوى ضده، مثل هذا الحق.

لا يرغب “المدعون” في الدخول في تفاصيل الدعوى، مدرجين إياها في إطار “الدعوى الجزائية”، وبالتالي أي كلمة استباقية سيتفوهون بها قد تؤخذ عليهم، لهذا لن يكون أي كلام حول هذه الدعوى إلا عبر بيانات رسمية موقعة تصدر باسمهم.

في كل مرة يطرح موضوع الفتاوى الدينية، السياسية منها بالتحديد، يظهر من يعترض على هذا الجمع بين الدين والسياسة، مطالبا بفصل مؤسسة الدين عن مؤسسة الدولة. ويذهب البعض أبعد من حدود الفتاوى الإسلامية، المتمددة الى كل المواضيع، ما لها منها علاقة بالدين وما ليس لها أدنى علاقة به، متحدثا عن “فكرة الوعظ عند المسيحيين أيضا في مواضيع لا علاقة لها بالدين”... .

الفصل إذا بين ما هو ديني وبين ما هو سياسي ضروري، عند المسلمين وعند المسيحيين. وفي هذا الإطار يعلق أحد الموقعين على الدعوى ضد النابلسي بالقول “لا مشكلة في أن يقول “المرجع الديني” المسلم أن الصوم ضروري، على أن يكون قرار الصوم أو عدمه خيارا شخصيا عند الأفراد... الدستور يحمي بعض المهام المحددة والمعطاة الى رجال الدين ولا أحد يناقشهم فيها، لكن المشكلة هي حين يشعر المرء أن الكلام الديني ينال من حقوقه، أي من الحق الذي يحمي حريته”.

يرى بعض المسلمين “أن مشكلة بعض الفتاوى، ذات الطابع السياسي تحديدا، هي في منع المسلم من ممارسة حقه الدستوري الذي كفله القانون... وتقول “مثقفة شيعية” وقعت على “الدعوى” ضد النابلسي “أن كل قوانين الدولة، الجزائية والسياسية والاقتصادية وسواها, هي ذات مرجعية وضعية, إلا حياة النساء وتحديدا مواد قانون العقوبات التي لها علاقة بالنساء”. وتضيف “ثمة فتاوى دينية تعد اعتداء على القانون. وثمة تكليفات ذات طابع شرعي، عند المسيحيين وعند المسلمين...” وتستطرد “سمعت أن أحد المطارنة طلب، قديما، من المسيحيين في عظة ألقاها الا ينتخبوا القومي السوري عبدالله سعادة”.

أبعد من حدود الدعوى على الشيخ عفيف النابلسي, تظل الاشكالية في التداخل القائم بين ما هو ديني وما هو سياسي وكيفية فكه. وحق رجل الدين في إبداء الرأي السياسي طبيعي, لكن التهويل بهذا الحق ليس حقا!