محاضرة البابا وسوء التفاهم

الأب الدكتور يوسف مونس

النهار 20 أيلول 2006

امامي بالفرنسية نص محاضرة الحبر الاعظم البابا بينيديكتوس السادس عشر في جامعة Ratisbonne في المانيا والتي اثارت الغضب والسخط في العالم الاسلامي والارثوذكسي وبعض الاستياء في العالم الكاثوليكي. واسمح لنفسي بالملاحظات الآتية:

الملاحظة الاولى: أسف لسوء الفهم الملاحظة الاولى ابديها بأسف انه حتى اليوم وفي مقال في النهار يظهر ان الكثير من المفكرين لم يقرأوا النص ولا ذهبوا الى مراجعته، بل راحوا يتهمون ويجرحون ولم يصلوا الى الافق الذي يحاول البحث عنه قداسة الحبر الاعظم في محاضرته وهو علاقة الايمان والعقل والوحي والجامعة او البحث العلمي الاكاديمي في عالم اليوم الذي ابتعد فيه العقل عن الله حتى وصل الى العلمانية الملحدة وقطع جذوره مع المقدس، او انتهى فيه الجهل الديني لطبيعة الله المحبة فراح يؤسس الايمان على الارهاب والعنف مبرراً كل الجرائم باسم الدين وباسم الله.

الملاحظة الثانية: قراءات مجتزأة

توقف الكثيرون عند استشهاد مجتزأ ليس هو جوهر الموضوع ولا هو الاساس في عمق التفكير في هذه المحاضرة المعقدة والصعبة والجدلية القوية المتماسكة من استاذ اكاديمي له مراس وتاريخ وحكمة في التدريس والبحث والكتابة وإلقاء المحاضرات.

اذاً الفكرة الاساسية للمحاضرة هي العلاقة بين العقل والايمان والعلم والوحي في اطار جامعي وحياتي وليس مناقشة الاسلام للدفع بالغرائز والحساسيات الى هذا الجو المحموم لشعوب من حقها ان تدافع عن قيمها ومعتقداتها بمقدار ما وصلت اليها حقيقة الكلمات ومعانيها ومدلولاتها. المحاضرة الاكاديمية بحتة صعبة جدلية المانية التركيب والطريقة. فمن اجتزأ منها هذا الاستشهاد؟ وكيف؟ ولماذا؟ أللإيقاع بين المسيحية والاسلام واقفال باب الحوار الذي اقره المجمع الفاتيكاني الثاني الذي دعا الى احترام الاسلام وقيمه، والذي نادت به وثيقة الارشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" في احترام متبادل وتفهم روحاني وعيش مشترك هو مثال ورسالة والنظر الى وجه المسيح بحب واحترام والى وجه مريم بتقدير واعجاب؟

الملاحظة الثالثة: المرسل تلقى المرسلة مشوشة

انحرفت الامور عن غايتها واسف البابا لسوء الفهم هذا، واوضح انه لا يقصد الاساءة الى الاسلام وهو يحترم ويجل ايمان المسلمين ووقع خطأ كبير اعلامي بين ما هي الرسالة وما هو مضمونها، وكيف وصلت الى المرسل اليهم او كيف فهم المتلقون الرسالة ومضمونها ووقع التشويش وسوء الفهم ووجب التوضيح واعادة الصورة الى جمالها وحقيقتها.

الفكرة الاساسية للمحاضرة هي العلاقة بين العقل والايمان والوحي والعلم والجامعة والانعكاسات على القيم والمجتمع والسلوك. فإذا تمسك الانسان بالايمان بطريقة غير عاقلة وقع بالتطرف والعنف واذا تمسك فقط بالعقل واكتفى به وقع في الالحاد والدهرنة وليس العلمانية. الاسلام لم يكن موضوع المحاضرة. بل العلاقة بين العنف والدين. فإذا ارتبط العنف بالدين اصبح مناقضاً لله وللطبيعة الانسانية. ولا يمكن ان يبرر العنف تبريراً دينياً ولا يمكن للمقدس او يؤسس على العنف، لأنه مناف لطبيعة الله المحبة والسلمية. وما ينافي ايضاً طبيعة الانسان هو فصل العقل عن الايمان او عن الدين. العقل يؤسس لكشف سر الله الذي وهب الانسان العقل والادراك والمعرفة. والله هو الحقيقة المطلقة لذلك يمكن للعقل ان يسعى لادراك هذه الحقيقة المطلقة والتعلق بها والتسليم لها.

العقل هبة من الله فعلى الحضارة الغربية ان تعود اليوم لتكتشف الروح والقيم الاخلاقية، وان تعود لتكتشف الله. خلفية كلام البابا ليست سياسية ولا ديبلوماسية، بل هي فلسفية وفكرية واكاديمية صارمة فكيف اصبحت شارعية غوغائية؟ المحاضرة موجهة الى العلماء والنخبة (وليس الى رجال الدين) والى البحاثة داخل الجامعة بفكر نقدي صارم وليس انطلاقاً من مسلمات ومقولات وثرثرات تردد هي ذاتها عبر مئات السنين. لا ننس المدرسة النقدية التاريخية الالمانية التي لم يعرفها العرب الا مع ابن رشد وبعض العلماء العرب المنوّرين الذي رُذلوا او مع المعتزلة الذين اضطُهدوا وقتلوا والتي لا يعرفها الا القلائل اليوم في الفكر العربي والاسلامي.

الملاحظة الرابعة: الدين لا يؤسس على العنف

الدين لا يؤسس على العنف لأنه مناف لطبيعة الله ومن لا يحكّم العقل فهو ضد الله. المحاضرة صعبة ومعقدة، اذا ماذا كان قصد قداسة البابا؟ ماذا كانت نيته؟ حتما ليس الاساءة الى الاسلام ولا شرحا للاسلام. فكيف انقلبت محاضرة تدعو الى حوار الحضارات والى عمق الانسان الى تصادم فكري وهياج واثارة مشاعر؟ الاستشهاد لا يعبر عن أفكار البابا ولا هذا هو موقف الكنيسة، كيف تحولت الامور الى جدال وصراع وقتل عنيف باسم الدين لراهبة ايطالية وخطف كاهن واحراق كنائس واشاعة روح الكراهية والعداء بين ديانة تدعو الى التراحم والحوار وقول يقول لا اكراه في الدين وديانة تدعو الى المحبة والمسامحة والمغفرة؟

نقرر القول ان الاسلام لم يكن في صلب المحاضرة وانما السؤال الاساسي كان ما هي علاقة العقل بالعنف والايمان؟ والعنف لا يأتي من الله. ولا يمكن ان يولد عندما يكون هناك انسجام بين العقل والايمان. فيجب ان لا يخطف الايمان على أيدي السياسيين والمتعصبين والارهابيين والرجعيين والسلفيين من أية جهة أتوا، يهودا كانوا أم مسلمين أم مسيحيين ام ملحدين.

فكيف صار انه لم يعد المهم ماذا أراد البابا ان يقول بل كيف تلقى العالم الاسلامي هذه الافكار وهذه الآراء الاكاديمية؟ ولماذا ارتجت أصقاع العالم الاسلامي بسوء التفاهم هذا وبالمطالبة بالاعتذار؟ أسف البابا في خطابه لهذا السوء من التفاهم وانه لم يقصد الاساءة الى الاسلام والمسلمين، بل ان محاضرته تدعو الى الحوار الصريح والصادق في اطار الاحترام المتبادل. "فلا يمكن لاستشهاد من القرون الوسطى ان يعبّر بأي شيء من الاشكال عن فكري الشخصي".

المحاضرة ليست عن الاسلام ولا تراجعا من مواقف الفاتيكان السابقة، بل هي تأكيد على الاحترام والحوار المتبادل ودعوة خاصة لأوروبا العلمانية ان تعود الى الاستنارة بقيم الايمان والروح والعودة الى الله. ليست هذه صحوة دينية كالصحوة الاميركية؟ البابا رافق المجامع منذ 45 سنة ورافق البابا يوحنا بولس الثاني منذ 25 سنة وهو المستشار اللاهوتي البارع وكاتب العديد من رسالات البابا خاصة بين العقل والايمان وتألق الحقيقة، بل هي دعوة للعودة الى روح الله.

الملاحظة الخامسة: النص الكامل لم يقرأ

الظاهر ان النص الكامل لم يقرأه الا القليل من العلماء والمفكرين. أما المقطع الصغير الذي هو الاستشهاد من الجيل الرابع عشر فقد تبارى بالتعليق عليه الكثير من الغيارى الذين يريدون توسيع رقعة نفوذهم في مجتمعاتهم وبيئتهم ودفعها مجددا الى جاهلية دينية جديدة متعصبة سلفية ظلامية خصوصا في الجماعات المتطرفة ليقبضوا عليها بسلطتهم وخسارة هذا الكنز الكبير من الحوار والاحترام المتبادل بين المسيحية والاسلام ونضاله المشترك لاجل كرامة الانسان وحريته واحترام الحياة والبيئة.

نعم هناك في الاسلام دور كبير للعقل. وهناك عدم اكراه في الدين واحترام لشخص المسيح وللسيدة العذراء وهناك ايمان بالله الواحد وقيم انسانية مهمة دعا المجمع الفاتيكاني الثاني الى احترامها وهذا هو الموقف الحقيقي الثابت للكنيسة وهذا ما طالب به الارشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان".

يجب ان نعلن ان العنف ليس من طبيعة الله ولا مرتكز ديني له. علينا ان نوضح ونوضح ونقرأ المحاضرة بعقل وروية وهدوء وتأن كما قال العلامة السيد علي الامين بعيدا عن الضجيج الاعلامي والانفعال وحركة الشارع بل بالمودة والمحبة وليس بالاجتزاءات كما قال سيادة المطران بولس مطر او كما قال السيد البطريرك ان الانتقادات التي وجهت الى قداسة البابا هي سياسية وهو يحترم الاسلام وينبذ الدوافع الدينية للعنف. وهذا ما شدد عليه أمين سر دولة الفاتيكان تارسيوس بيرتوني.

وهذا ما دعا اليه الشيخ عبد الامير قبلان، نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى، وشيخ الازهر وسواهم من العقلاء والحكماء كالسيد محيي الدين شهاب في مقاله اليوم في "النهار".

فهلا حكّمنا العقل والروية والمودة ولم نجرف نحن "العقّال" سنين من الحوار والمحبة واقتسام الايمان بالله ومحبة المسيح والعذراء وفتح الجراحات القديمة من حروب أديان ومذاهب!