وثيقة

نص كلمة البابا بنديكت السادس عشر في جامعة رغنسبورغ:

الإيمان والعقل وذكريات من الجامعة وتأملات 

السفير 21/9/2006/ ننشر هنا ترجمة لنص المحاضرة التي ألقاها البابا بنديكت السادس عشر في جامعة رغنسبورغ والتي أثارت عاصفة من ردود الفعل لم تهدأ على الرغم من التوضيحات العديدة التي أصدرها الفاتيكان والبابا شخصيا. وقد سعينا في الترجمة إلى الحفاظ قدر الإمكان على حرفية النص ما استدعى وجود عدد من الهوامش التوضيحية.

أصحاب النيافة، اصحاب السماحة، اصحاب السعادة، السيدات والسادة المميزين،

هي تجربة مؤثرة لي ان اعود مجددا الى الجامعة وأن اكون قادرا مرة جديدة على إلقاء محاضرة من هذا المنبر. أفكر في تلك الاعوام، بعد فترة ممتعة في <فرايسنغر هوشوليه>، بدأت التعليم في جامعة بون. كان ذلك في العام ,1959 في ايام الجامعة القديمة التي كانت تضم اساتذة عاديين. ولم يكن للأقسام (الكراسي) المتنوعة لا مساعدون ولا أمانات سر، غير أن التعويض كان في احتكاك اكثر مباشرة مع الطلاب وخصوصا بين الاساتذة انفسهم. كنا نلتقي قبل الدروس وبعدها في غرف الطاقم التعليمي. وكان يجري حوار حيوي مع المؤرخين والفلاسفة وعلماء اللغة وبطبيعة الحال، بين كليتين لاهوتيتين. وعند بداية كل فصل كان يحصل <لقاء أكاديمي> حيث يظهر الاساتذة من كل كلية أمام طلاب الجامعة بأسرها، ليتيحوا تجربة حقيقية من <الروح الجامعية> وهو شيء قد اشرتم ايضا اليه للتو يا صاحب النيافة الرئيس (رئيس الجامعة) وبكلمات أخرى، تكون التجربة وعلى الرغم من ان اختصاصاتنا التي تجعل من الصعب علينا التواصل احيانا، مع بعضنا البعض، تجعلنا كلا موحدا، نعمل كل شيء على قاعدة عقلانية واحدة بوجوهها المختلفة ونتشارك المسؤولية في اللجوء الصحيح الى العقل الواقع هذا اصبح تجربة حية. كانت الجامعة فخورة جدا كذلك بكليتيها اللاهوتيتين. وكان واضحا، ومن خلال التمحيص في عقلانية الايمان، انهما تقومان بعمل ضروري كجزء من <كل> <الروح الجامعية العلمية>، حتى لو لم يكن الجميع قادرين على المشاركة في الايمان الذي سعى اللاهوتيون الى ربطه بالعقل ككل. لم يكن الاحساس العميق بالارتباط بشمولية العقل مضطربا، حتى عندما ذكر ذات مرة ان زميلا قال بوجود شيء نافر بشأن جامعتنا: لديها كليتان مكرستان لشيء غير موجود: الله. وحتى في وجه هذا النوع من التشكيكية الجذرية، من الضروري والعقلاني إبراز مسألة الله عبر استخدام العقل، والقيام بذلك في سياق تقليد الايمان المسيحي: كان هذا مقبولا بلا نقاش، في الجامعة بأسرها.

وتذكرت كل هذا مؤخرا عندما قرأت اصدار الاستاذ ثيودور خوري (جامعة مونستر) لجزء من حوار دار ربما في العام 1391 في ثكنات الجيش الشتوية قرب انقرة بين الامبراطور البيزنطي الحاذق مانويل الثاني باليولوغوس وفارسي متعلم حول موضوع المسيحية والاسلام، وحقيقة كل منهما. ويرجح ان الامبراطور نفسه هو من دوّن الحوار هذا، اثناء حصار القسطنطينية بين العامين 1392 و,1401 وهذا ما يفسر لماذا حظيت حججه بتفصيل اكبر من حجج محاوره الفارسي. ويتمد الحوار باتساع حول بنى الايمان التي يحتويها التوراة والقرآن، ويتناول خصوصا العلاقة ما بين ثلاثة <قوانين> كما اسمياها او <قواعد للحياة>: العهد القديم والعهد الجديد والقرآن. وليست في نيتي مناقشة هذه المسألة في المحاضرة الراهنة، حيث اود هنا ان اناقش نقطة واحدة فقط كانت هامشية بذاتها في مجمل الحوار وهي أنني عثرت، في سياق موضوع <الايمان والعقل>، ما اجده مثيرا للاهتمام ويمكنه أن يخدم كنقطة بداية في تأملاتي حول المسألة هذه.

في الحوار السابع (الجدال) الذي حرره الاستاذ خوري، يلامس الامبراطور موضوع الحرب المقدسة. ويبدو ان الامبراطور كان يعرف السورة هذه <لا إكراه في الدين> (سورة البقرة الآية 256). ووفقا للخبراء، فإن هذه السورة قد نزلت في مرحلة مبكرة، عندما كان محمد ما زال بلا حول ومهددا. لكن من الطبيعي ان الامبراطور كان يعرف التعليمات، التي تطورت لاحقا ودونت في القرآن، والمتعلقة بالحرب المقدسة. ومن دون الغوص في التفاصيل، على غرار الاختلاف في المعاملة التي حظي بها <اصحاب الكتاب> و<الكفار>، يتوجه الى محاوره بجلافة مفزعة، وهي جلافة تدهشنا، بالسؤال المركزي عن العلاقة بين الدين والعنف عموما، قائلا <أرني ما جلب محمد من جديد، وستعثر هناك على اشياء شريرة وغير انسانية وحسب، كإيعاز بنشر الايمان الذي بشر به بالسيف>. وبعدما عبر الامبراطور عن نفسه بهذه القوة، مضى الى تفسير مفصل للاسباب التي تجعل من نشر عبر العنف أمرا غير عقلاني. لا يتوافق العنف مع طبيعة الله ومع طبيعة الروح. ويقول <الله لا يُسر بالدم والعمل بلاعقلانية مخالف لطبيعة الله. ولد الايمان من الروح وليس من الجسد. ومن يرد أن يقود امرأً الى الايمان يحتَجْ الى القدرة على التحدث الفطن وإظهار العقل إظهارا ملائما، من دون عنف ولا تهديدات... ولاقناع روح عاقلة، لا يحتاج المرء الى ذراع قوية، او الى سلاح من أي نوع، ولا غير ذلك من وسائل تهديد الشخص بالموت...>.

البيان الحاسم في الحجة هذه ضد تغيير الدين بالعنف هو الآتي: عدم العمل وفقا للعقل، يخالف طبيعة الله. ويلاحظ المحرر، ثيودور خوري، التالي: بالنسبة الى الامبراطور، وهو بيزنطي كونته الفلسفة اليونانية، فهذا البيان بديهي. لكن بالنسبة الى التعاليم الاسلامية، فإن الله متعالٍ بإطلاق. لا ترتبط ارادته بأي من تصنيفاتنا، ولا حتى بالعقلانية. ويقتبس خوري هنا من عمل (للاختصاصي في الفكر) الاسلامي الفرنسي المعروف ر. ارنالديز، الذي يشير الى ان ابن حزم يمضي بعيدا الى حد الاعلان ان الله عير مقيد حتى بكلمته، وأن ما من شيء سيرغمه على كشف الحقيقة لنا. فعندما تحل إرادة الله، سنكون قادرين حتى على عبادة الأوثان.

عند هذه النقطة نكون في مواجهة مأزق لا مفر منه، بقدر ما يتعلق الامر بفهم الله وبتلك الممارسة الدينية المحددة. هل القناعة بأن العمل على نحو مناف للعقل تتعارض مع طبيعة الله هي مجرد فكرة اغريقية، او هل هي دائما حقيقية بحد ذاتها؟ اعتقد اننا نستطيع هنا رؤية التناغم العميق بين ما هو اغريقي بأفضل معنى للكلمة والفهم التوراتي للايمان بالله. وبتعديل الآية الاولى من <سفر التكوين>، الاولى في كل التوراة، بدأ يوحنا انجيله بالكلمات الآتية: <في البدء كانت الكلمة> (logos). هذه هي الكلمة ذاتها التي استخدمها الامبراطور: ان الله يعمل بالكلمة. وتعني <الكلمة> logos هنا الكلمة والعقل معا(1) عقل خلاق وقادر على التواصل مع ذاته، وبالتحديد كعقل. ولذلك لفظ يوحنا الكلمة النهائية حول المفهوم التوراتي عن الله، وبهذه الكلمة التي غالبا ما تكون عسيرة ومعذبة، تجد كل خيوط الايمان التوراتي تراكمها وتراكبها. ويقول الانجيلي، في البداية كانت <الكلمة>، و<الكلمة هي الله>. ولم يحصل اللقاء بين الرسالة التوراتية والفكر الاغريقي بالمصادفة. فرؤية القديس بولس الذي رأى ان الدروب الى آسيا مقطوعة ورأى في حلمه مقدونياً يدعوه قائلا: <تعال الى مقدونيا وساعدنا> (اعمال الرسل 61610) (2) يمكن تأويل الرؤية هذه ك<تكثيف> للضرورة الحيوية لتقارب بين الايمان التوراتي والتحقيق الاغريقي.

وفي الحقيقة، كان هذا التقارب يجري منذ فترة. فالاسم الغامض لله، الذي ظهر من الدغل المشتعل، هو اسم يفصل هذا الاله عن غيره من الكائنات الإلهية وأسمائها الكثيرة ويعلن ببساطة <انا هو>، ليقدم تحديا لمفهوم الخرافة التي تتخذ محاولة سقراط التغلب والسمو عليها، شكلا مشابها للغاية. وتبلغ العلمية التي بدأت في الدغل المشتعل نضجا جديدا في <العهد القديم> في زمن النفي، عندما اعلن إله اسرائيل، اسرائيل المحرومة الآن من ارضها وعبادتها، إله السماء والارض ووصف في صيغة بسيطة تعيد صدى الكلمات لفظت عند الدغل المشتعل: <أنا هو>؟ ترافق الفهم الجديد هذا لله مع نوع من الاستنارة التي وجدت تعبيرا شاملا في السخرية من الآلهة التي كانت من صنع يدي البشر (راجع المزمور 115). وعلى الرغم من الصراع المرير مع اولئك الحكام الهلنستيين الذين سعوا الى تكييف قسري للعادات ولعبادة الاوثان عند الاغريق، فإن الايمان التوراتي في الحقبة الهلنستية، التقى بأفضل ما انتجه الفكر الاغريقي على مستوى عميق، ونتج عن ذلك إغناء متبادل واضح خصوصا في أدب الحكمة اللاحقة.

ونعرف اليوم ان الترجمة الاغريقية للعهد القديم انتجت في الاسكندرية الترجمة <السبعونية> وهي اكثر من ترجمة بسيطة لنص عبري (وهذا معنى اقل من ان يكون مرضيا): انها شهادة مستقلة اخذت شكل نص وخطوة مهمة ومميزة في تاريخ الوحي، خطوة حصلت في خضم هذا اللقاء على نحو كان حاسما لولادة وانتشار المسيحية. لقد حصل لقاء عميق بين الايمان والعقل هنا، لقاء بين تنوير اصيل وبين الدين. ومن صميم الايمان المسيحي وفي الوقت ذاته، من قلب الفكر اليوناني كان مانويل الثاني قادرا ان يقول: عدم العمل <بالكلمة> منافٍ لطبيعة الله.

وعلى المرء ان يلاحظ، بكل النزاهة الممكنة، اننا في العصور الوسطى المتأخرة، نجد ميولا في اللاهوت ستقطع التآلف هذا بين الروح الاغريقية والروح المسيحية. وعلى خلاف مع ما يسمى النزعة الثقافوية عند كل من اغسطين وتوما، تنهض مع دونس سكوتوس (3) نزعة ارادوية تقود في نهاية المطاف الى اننا نقدر فقط على معرفة <إرادته الظاهرة> (او العادية). ووراء ذلك، يوجد ملكوت حرية الله، الذي بفضله يستطيع ان يفعل ما يعاكس كل ما فعله في الحقيقة. يرفع هذا المواقف التي تقترب بوضوح من مواقف ابن حزم وربما تؤدي حتى الى رسم صورة إله مزاجي، غير مرتبط حتى بالخير والحقيقة. ان تسامي الله وأخرويته جليلان الى الحد الذي لا يعود معه شعورنا بالحقيقة والخير يعتبر مرآة صادقة لله، والذي تبقى امكاناته الاعمق عصية ابداً ومختفية وراء قراراته الفعلية. وفي ما يقابل ذلك، كانت الكنيسة تصر دائما على ان بين الله وبيننا، بين <روحه الخالقة> الابدية وبين عقلنا المخلوق يوجد تجانس يبقى فيه انعدام التشابه اكبر بما لا يقاس من التشابه وفق ما اعلن المجمع للاتيرانية الرابع في العام 1215 لكن ليس الى النقطة التي ينعدم التجانس واللغة فيها. لا يصبح الله أكثر الوهية عندما ندفعه بعيدا عنا دفعا نهائيا غير قابل للاختراق وارادويا، بل ان الاله المقدس حقا هو الله الذي أظهر نفسه ك<كلمة>، وعمل يواصل العمل ك<كلمة> وبمحبة لمصلحتنا. وبالتأكيد، يقول القديس بولس ان المحبة معرفة <متسامية> وهي لذلك قادرة على ان تدرك ما هو أكثر من الفكر (راجع <الرسالة الى افسس> الاصحاح الثالث:19).(4) ومع ذلك، تظل محبة الله الذي هو <كلمة>. وبالتالي فإن العبادة المسيحية هي، وباقتباس جديد من القديس بولس <خدمة إلهية عقلية> متناغمة مع عالمنا ومع عقلنا (راجع <الرسالة الى رومية> الاصحاح الثاني عشر: 1) (5).

التقارب الداخلي هذا بين الايمان التوراتي والتحقق الفلسفي الاغريقي كان حدثا حاسم الاهمية ليس فقط من وجهة نظر تاريخ الاديان، بل ايضا من وجهة نظر تاريخ العالم وهو حدث ما زال يعنينا حتى اليوم. وأخذا في الاعتبار هذا الالتقاء، لا يعود مفاجئا ان تكون المسيحية، وعلى الرغم من ان بعض اصولها وبعض التطورات المهمة التي شهدتها تعود الى الشرق، فقد اتخذت سمتها التاريخية الحاسمة في اوروبا. ويمكننا ايضا ان نعبر عن هذا بطريقة مختلفة: هذا اللقاء، واضافته اللاحقة من الارث الروماني، خلق اوروبا ويبقى اساس ما يمكن تسميته اوروبا عن صواب.

والطرح القائل ان الارث الاغريقي المنقى نقديا يشكل جزءا متكاملا مع الايمان المسيحي، قوبل بالدعوة الى نزع الهلينة عن المسيحية وهي دعوة تهيمن على المزيد والمزيد من النقاشات اللاهوتية منذ بداية العصر الحديث. وبإلقاء نظرة عن كثب، يمكن ملاحظة ثلاث مراحل في برنامج نزع الهلينة: وبرغم اتصالها في ما بينها، فهي تختلف بوضوح واحدة عن الاخرى في دوافعها وأهدافها.

برز نزع الهلينة في البداية بالاتصال مع مسلمات <الاصلاح> في القرن السادس عشر. وأعتقد الاصلاحيون اثناء نظرهم في تقليد اللاهوت السكولائي (6)، انهم يواجهون نظام إيمان كيفته الفلسفة تكييفا كاملا، اي تمفصل الايمان على قاعدة من نظام فكري غريب. ونتيجة لذلك، لم يعد الايمان يظهر ك<كلمة> تاريخية حية بل كعنصر من نظام فلسفي مقابل. وبحث مبدأ <النص المقدس الواحد>، من ناحية ثانية، الى ايمان بصيغته الصافية والبدائية، الموجود في الاصل في <الكلمة> التوراتية. وبدت الميتافيزيقيات كمقدمة منطقية مشتقة من مصدر آخر، على الايمان فيه ان يكون متحررا بهدف ان يصبح مجددا ممتلئا بذاته. وعندما اعلن كانط انه احتاج الى تنحية التفكير جانبا بهدف اتاحة المجال للايمان، دفع بالبرنامج هذا قدما بجذرية لم يستشرفها الاصلاحيون ابدا. وقد أرسى بذلك الايمان حصريا على العقل العملي، منكرا قدرته على الوصول الى الحقيقة ككل.

وأشار اللاهوت المتحرر في القرنين التاسع عشر والعشرين، الى المرحلة الثانية من عملية نزع الهلينة، مع ادولف فون هارناك كممثله المتميز. وكان هذا البرنامج عالي التأثير في اللاهوت الكاثوليكي ايضا عندما كنت طالبا وفي السنوات الاولى التي علمت فيها. وكانت نقطة انطلاقه تمييز باسكال بين إله الفلاسفة وإله ابراهيم واسحق ويعقوب. وفي محاضرتي الاولى في بون في العام ,1959 حاولت ان اتناول هذه المسألة، ولا اعتزم هنا تكرار ما قلته في تلك المناسبة، غير انني اود ان اصف باختصار على الاقل، الجديد في المرحلة الثانية هذه من نزع الهلينة. كانت الفكرة المركزية عند هارناك هي العودة ببساطة الى يسوع الانسان وإلى رسالته البسيطة، الى ما دون تطور اللاهوت وبالتالي الهلينة: كانت الرسالة البسيطة هذه تبدو كتراكم للتطور الديني للانسانية. كان يقال ان يسوع قد وضع حدا للعبادة مفضلا عليها السلوك الاخلاقي. وفي النهاية، جرى تقديمه كأبٍ للرسالة الاخلاقية الانسانية. كان هدف هارناك في الاساس هو اعادة المسيحية الى التناغم مع العقل الحديث، بتحريرها، على ما يقال، من العناصر الفلسفية واللاهوتية، على غرار الايمان بألوهية المسيح وبالثالوث الإلهي. بهذا المعنى، تكون التأويلات التاريخية النقدية للعهد الجديد ، وفق ما رآها، تعيد اللاهوت الى مكانه في الجامعة: بالنسبة الى هارناك، اللاهوت شيء تاريخي اساسا وبالتالي هو علمي صرف. وما يمكن ان يقوله بشأن يسوع هو، ان جاز القول، تعبير عن العقل العملي وبالتالي يمكنه ان يحتل موقعه الصحيح في الجامعة. ووراء التفكير هذا يكمن التحديد الذاتي للعقل، الذي عبرت عنه كلاسيكيا كتابات كانط <النقدية>، لكن وفي الوقت ذاته، ازداد جذرية بتأثير العلوم الطبيعية. المفهوم الحديث للعقل هذا، يرتكز، باختصار على، التأليف بين الافلاطونية (المدرسة الديكارتية) وبين التجريبية (الامبيريقية)، وهو تأليف أكده نجاح التكنولوجيا. ومن ناحية، يفترض جدلا البنية الرياضية للمادة، ويدخل العقلانية التي تجعل من الممكن فهم كيف تعمل المادة ويستخدم فاعليتها: المقدمة المنطقية الاساسية هذه، ان جاز التعبير، العنصر الافلاطوني في الفهم الحديث للطبيعة. ومن ناحية ثانية، هناك قابلية الطبيعة للاستغلال في سبيل اغراضنا، وهنا توجد فقط امكانية التحقق او الرفض عبر التجربة التي تتيح الوصول الى اليقين النهائي. ويمكن الموازنة بين هذين القطبين، وفقا للظروف، ان تحول طرف الى آخر. وبناء على ما اعلنه بقوة المفكر <الايجابوي> (7) ج. مونو عنه انه <لافطوني ديكارتي) مقتنع.

وأدى هذا الى نهوض مبدأين كانا حاسمين في المسألة التي اثرناها. الاول، ان النوع الوحيد من اليقين الذي ينتج عن التداخل بين العناصر الرياضية والتجريبية هو الذي يعتبر علميا. وأي شيء يزعم كونه علما يجب ان يقاس وفق هذا المعيار. لذلك فالعلوم الانسانية، كالتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة، تحاول ان تكيف ذاتها وفق هذا المبدأ العام للعلمية، النقطة الثانية وهي مهمة في تأملاتنا، هي انه في صميم طبيعة المنهج هذا يكمن استثناء لمسألة الله، بجعلها تبدو كمسألة لاعلمية او ما قبل علمية. وبالتالي، اننا نواجه اختصارا لشعاع العلم والعقل، يجب ان يتساءل المرء بشأنه.

سأعود الى هذه المسألة لاحقا. في هذه الاثناء، تتعين ملاحظة انه من وجهة النظر هذه ستنتهي كل محاولة للحفاظ على ادعاء اللاهوت بطابعه <العلمي>، الى اختزال المسيحية الى مجرد جزء من ذاتها السابقة. لكن علينا ان نقول اكثر من ذلك: اذا كان العلم هو هذا فقط، عندها سينتهي الانسان الى التعرض للاختزال، وخصوصا الاسئلة الانسانية عن اصلنا ومصيرنا، اي الاسئلة المثارة من قبل الدين والاخلاق، بحيث لا يكون من مجال في نطاق العقل الجمعي وفق ما عرفه <العلم>، على ما يفهم، وأن ينبذ الى عالم الذات. تقرر الذات إذاً، وعلى قاعدة تجاربها، ما اذا كانت تعتبر قادرة على البقاء في مسائل الدين، ويصبح <الوعي> الذاتي هو الفيصل في ما هو اخلاقي. وبهذه الطريقة، يفقد الدين والاخلاق قدرتهما على خلق الجماعة ويصبحا مسألتين شخصيتين تماما. هذا وضع خطر لشؤون الانسانية، على ما نرى من الامراض المقلقة في الدين والعقل والتي يتعين انتزاعها عندما يتقلص العقل الى الحد الذي لا تعود فيه مسائل الدين والاخلاق تعنيه. وتنتهي محاولات بناء نظام اخلاقي من قوانين التطور او من علم النفس وعلم الاجتماع الى ان تكون ناقصة ببساطة.

وقبل ان أصل الى الاستنتاجات التي قاد كل ما سبق اليها، علي ان اشير بايجاز الى المرحلة الثالثة من نزع الهلينة، والتي تتقدم الآن. وفي ضوء تجربتنا مع التعددية الثقافية، يقال غالبا هذه الايام ان التأليف مع الهيلينية المنجز في الكنيسة المبكرة، كان عملية اولا عملية تأثر بثقافة أخرى لم يكن يجب ان ترتبط بثقافات أخرى. ويقول الاخيرون ان لديهم الحق في العودة الى رسالة العهد الجديد البسيطة قبل التعرض للثقافة الاخرى، بهدف ان يدخلوا تأثيرات ثقافة جديدة من وسطهم الخاص. ليس الطرح هذا زائفا فحسب، بل إنه فظ ويفتقر الى الدقة. لقد كتب العهد الجديد باللغة اليونانية ويحمل بصمات الروح اليونانية التي كانت قد بلغت النضج اثناء تطور العهد القديم. وحقيقي ان هناك عناصر في تطور الكنيسة المكبرة لم تتكامل في جميع الكنائس. رغم ذلك، فإن القرارات الاساسية التي اتخذت بشأن العلاقة بين الايمان واستخدام العقل البشري هي جزء من الايمان ذاته، وقد تطورت بالتساوق مع طبيعة الايمان ذاتها.

وأصل هنا الى استنتاجاتي. المحاولة هذه التي رسمت بضربات عريضة، عن نقد للعقل الحديث من الداخل لا صلة لها بإعادة الساعة الى الوراء الى زمن ما قبل عصر التنوير ورفض الافكار المتبصرة للعصر الحديث. يتعين الاعتراف بالوجوه الايجابية للحداثة على نحو لا رجعة فيه: اننا نشعر جميعنا بالامتنان للامكانات الرائعة التي فتحت امام الجنس البشري واما تقدم الانسانية الذي قُدّم لنا. يضاف الى ذلك، ان الذات العلمية هي كما اشرتم بنفسكم يا نيافة الرئيس هي ارادة الانصياع الى الحقيقة، وهي بذلك، تجسد الموقف الذي تنتمي اليه القرارات الاساسية للروح المسيحية. وليست النية هنا هي في التشبث بالموقف او النقد السلبي، بل توسيع مفهوم العقل وإنفاذه. وفيما نبتهج بإزاء الامكانات الجديدة المتاحة للبشرية، نرى ايضا الاخطار الناهضة من الامكانات هذه وعلينا ان نسأل انفسنا عن كيفية تجاوزها. وننجح بذلك فقط اذا اجتمع العقل والايمان في طريقة جديدة، وإذا تجاوزنا الحدود المفروضة ذاتيا على العقل في التحقق التجريبي، واذا افصحنا مرة جديدة عن آفاقه الشاسعة. بهذا المعنى، ينتمي اللاهوت عن صواب الى الجامعة وإلى الحوار العلمي الواسع، وليس فقط كمقرر تاريخي وواحد من العلوم الانسانية، بل بالتحديد كلاهوت، كتحقيق في عقلانية الايمان.

بهذا وحده نصبح قادرين على الحوار الاصيل بين الثقافات والاديان الذي تتسارع الحاجة اليه اليوم. ويسود على نطاق واسع في العالم الغربي ان العقل الايجابوي وحده واشكال الفلسفة القائمة عليه هي الصالحة صلاحا شاملا. مع ان ثقافات العالم المتدينة بعمق ترى هذا الابعاد للألوهة من شمولية العقل كهجوم على اعمق قناعاتها. وعقل أصم عن صوت الالوهة وعقل يعيد الدين الى عالم الثقافات الفرعية، هو عقل غير قادر على مباشرة حوار ثقافات. وفي الوقت ذاته، وكما حاولت ان أبين، فإن العقل العلمي الحديث وباحتوائه على عناصر افلاطونية يحمل في طياته سؤالا يشير الى ما يتخطى ذاته ويتخطى امكانات منهجه. وعلى العقل العلمي الحديث ان يقبل كأمر مسلم به وببساطة البنية العقلانية للمادة والصلة بين ارواحنا والبنية العقلانية للطبيعة، والذي يجب ان يرتكز عليه منهجه. والسؤال عن السبب الذي ينبغي فيه ان يكون هذا السؤال سؤالا حقيقا، وأن يعاد من العلوم الطبيعية الى اشكال أخرى من الفكر الى الفلسفة واللاهوت. ان الاصغاء الى التجارب العظيمة والافكار في التقاليد الدينية للانسانية، وتلك المتعلقة بالايمان المسيحي خصوصا، هو بالنسبة الى الفلسفة وحتى بالنسبة الى اللاهوت وإن بإسلوب مختلف، مصدر للمعرفة، ويعني تجاهله تقييدا غير مقبول لاصغائنا ولاستجابتنا. واذكر هنا بشيء قاله سقراط الى فايدو. ففي محاوراتهما المبكرة، ظهرت العديد من الآراء الفلسفية الزائفة، لذا قال سقراط: <سيكون من الاسهل فهم ان يصبح احدهم بَرِماً من كل هذه المفاهيم الزائفة الى الحد الذي يظل فيه بقية حياته مزدريا وهازئا من كل حديث عن الوجود غير انه في هذه الطريقة، سيحرم من حقيقة الوجود وسيعاني من خسارة عظيمة>. لقد تعرض الغرب للخطر زمنا طويلا بسبب نفوره من المسائل التي تتناول عقلانيته، ويمكن ان يتعرض لأذى عظيم بسبب ذلك. ان الشجاعة تقضي بإشراك العقل بأسره وعدم انكار عظمته وهذا هو البرنامج الذي يقوم عليه لاهوت مؤسس في الايمان التوراتي يشارك فيه في سجالات عصرنا. لقد قال مانويل الثاني <عدم التصرف بعقلانية، عدم التصرف وفق <الكلمة>، امر منافٍ لطبيعة الله>، وذلك وفقا لفهمه المسيحي لله في رده على محاوره الفارسي. وإلى هذه <الكلمة> العظيمة، الى اتساع العقل هذا، ندعو شركاءنا في حوار الثقافات. وإعادة اكتشافه هي المهمة العظيمة للجامعة.

ترجمة حسام عيتاني

1 لعل البابا يشير هنا الى تداخل معنيي logos وlogic حيث يرتبط معنى الكلمتين باللغة اليونانية القديمة ارتباطا وثيقا. ويمكننا العثور على ترابط مشابه في اللغة العربية بين كلمتي <النطق> و<المنطق>، وقد تناول جورج طرابيشي هذا التشابه والترابط وعقد مقارنة مسهبة بينهما في كتابه <نظرية العقل>.

2 <6وبعدما اجتازوا في فريجية وكورة غلاطية منعهم الروح القدس ان يتكلموا بالكلمة في آسيا. 7 فلما أتوا الى ميسيا حاولوا ان يذهبوا الى بيثينية فلم يدعهم الروح. 8 فمروا على ميسيا وانحدروا الى ترواس. 9 وظهرت لبولس رؤيا في الليل رجل مكدوني قائم يطلب اليه ويقول اعبر الى مكدونية وأعنا. 10 فلما رأى الرؤيا للوقت طلبنا ان نخرج الى مكدونية متحققين ان الرب قد دعانا لنبشرهم>.

3 المقصود هنا هو اللاهوتي جون دونس سكوتوس (12661306) الذي بدأ اثناء توليه تدريس اللاهوت في اوكسفور التمييز المنهجي بين فروع الفلسفة والعلوم واللاهوت.

4 <وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلئوا الى كل ملء الله>

5 <فاطلب اليكم ايها الاخوة برأفة الله ان تقدموا اجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية>.

6 لاهوت المذهب الفلسفي <المدرسي> الذي نشأ في المعاهد التعليمية في القرون الوسطى، ومن هنا اسمه، والباحث عن توافق بين الفلسفة الاغريقية والعقيدة المسيحية.

7 المقصود هنا انتماؤه الى المدرسة الفلسفية <الايجابوية> (Positivism) التي اسسها اوغوست كونت والقائلة بإمكان الوصول الى الحقيقة عبر المعرفة العلمية وحسب.