رسالة غبطة البطريرك صفير بمناسبة عيد الفصح المجيد

بكركي في الخامس من نيسان 2007

 

وجه غبطة البطريرك مار نصرالله صفير رسالة الفصح الى اللبنانيين عموما والمسيحيين خصوصا مقيمين ومنتشرين بعنوان "يسوع هذا قد اقامه الله" وفيها:

عيد قيامة السيد المسيح من بين الاموات، هو عيد الاعياد عندنا ولولاه لما كان لنا اعياد كنسية تذكر، وهذا هو البرهان الاكبر على انه الله، وابن الله، على ما كان قال يوما لليهود: "اهدموا هذا الهيكل، وانا اقيمه في ثلاثة ايام". وفهم سامعوه انه عنى هيكل الحجر، فقالوا: "بني هذا الهيكل في ست واربعين سنة، وتقيمه انت في ثلاثة ايام"؟ ويشرح يوحنا الانجيلي ما عناه السيد المسيح بقوله، و"هو هيكل جسده".

 

ولكن قيامة السيد المسيح لا تعنيه وحده، فهو قام من رقدة الموت ليقيمنا منها معه، على ما يقول بولس الرسول: "فقد دفنتم مع المسيح في المعمودية، وفيها أقمتم معه، لأنكم آمنتم بقدرة الله الذي اقامه من بين الاموات". وهذا ما اكّده ايضا بقوله في رسالته الى اهل كورنتس الاولى: "فالله قد اقام الرب، وسيقيمنا نحن ايضا بقدرته".

 

وكما ان حياة المسيح لم تكن لذاته، بل للناس اجمعين، هكذا موته لم يكن لذاته، بل للناس اجمعين. فهو قد افتدانا بدمه الذي سفكه على الصليب، على ما يقول بولس الرسول: "لأنكم اشتريتم بثمن كريم! فمجّدوا الله في جسدكم الذي لم يخلقه الله للنجاسة"، على ما يقول ايضا بولس الرسول، بل للقداسة، وقد اوضح فكرته هذه بقوله: "الطعام للبطن، والبطن للطعام، لكن الله سيبيد كليهما، اما الجسد فليس للزنى، بل للرب، والرب للجسد، فالله قد اقام الرب، وسيقيمنا نحن ايضا بقدرته".

 

ان القديس اغسطينوس يقول: "قيامة المسيح هي رمز الحياة الجديدة، التي يجب ان يحياها الذين يؤمنون به، هذه هي الامثولة العجيبة التي نستخرجها من قيامته وآلامه، والتي يجب ان نتعمّق فيها ونمارسها". ويضيف قائلا: "أفتكون حياتنا معدة للموت دونما سبب؟ ان ما استوجب لنا الموت هو الخطيئة، على ما يقول ايضا بولس الرسول: "لا تتسلط عليكم الخطيئة... ولا تملكنّ في جسدكم المائت فتطيعوا شهواته، ولا تجعلوا اعضاءكم سلاح ظلمة، بل قرّبوا انفسكم لله كأحياء قاموا من بين الأموات، واجعلوا اعضاءكم سلاح بر لله.

 

ان حدث القيامة لهو حدث مهم. انه حدث تاريخي يؤكده القبر الفارغ، وظهور السيد المسيح لتلاميذه بعد موته، في جسده النوراني، والمسيح وحده هو الذي خضع للموت، ليعود الى الحياة الابدية، لا الزمنية، وهو مَن قال: "الآب يحبني لأني ابذل نفسي، لكي اعود فأسترجعها.. لي سلطان ان ابذلها، ولي سلطان ان اعود فأسترجعها". وما الموت، على مثال موت السيد المسيح، سوى انتقال من الحياة الفانية الى الحياة الباقية. وهذا هو معنى الفصح.

 

أفما قال السيد عينه: "الحق الحق اقول لكم: مَن يسمع كلمتي ويؤمن بمَن ارسلني، ينل الحياة الابدية، ولا ياتي الى دينونة، بل قد انتقل من الموت الى الحياة"؟

لنستفد من هذا العيد، ولنعد اليه تعالى بتوبة صادقة، ولندخل الى اعماق ضميرنا مستنيرين بنور الانجيل لنرى اين نحن من تعاليم هذا الكتاب الخالد، واين نحن من قيامة السيد المسيح، التي يجب ان نسير على هدي نورها لنصل اليه تعالى عبر الذين هم اخوان لنا يجب ان نبني علاقاتنا على قاعدة الاحترام، والثقة، والمحبة المتبادلة.

 

ايها الاخوة والابناء الاعزاء، قيامة السيد المسيح يجب ان تكون بالنسبة الينا عربونا للقيامة مما نتخبط فيه من محن وويلات في هذا الوطن، وهي لا تعدّ ولا تحصى. وقد سبق لنا ان عددنا بعضها، وهي تتفاقم وتتراكم كل يوم. ونحن نرى وطننا يتفكك امام نواظرنا، ولا نسارع الى تداركه، وانهاضه من كبوته. وهذه مهمة جميع اللبنانيين، وعلى رأسهم، المسؤولون من بينهم. وهذه مسؤولية تقع عليهم قبل جميع الناس، ومسؤولية خطيرة سيدوّنها التاريخ بمداد التقبيح والاستنكار. ونرى ان هذا التفكك قد اصاب جميع مرافق الدولة، وخصوصا المؤسسات الدستورية منها. فلا يطلع فريق من المسؤولين برأي حتى يسارع الفريق المناوئ الى مواجهته برأي آخر مخالف. فاذا بنا امام دولة تشبه عربة تشد بها احصنة من امامها، وأحصنة من ورائها، فتبقى مكانها، بانتظار ان تذهب مكوناتها هباء منثورا. وكل ما يعود اليها مجمّد لا حركة فيه ولا حياة. والناس يشكون ويئنون، ولا مَن يسمع، ولا مَن ينظر، ولا مَن يبادر الى انقاذ.

 

ولنأخذ، على سبيل المثال، الاجراءات اليومية الروتينية، التعيينات في السلك الديبلوماسي، والتعيينات الادارية، وموازنة الدولة، وانتخاب خلف للمرحوم النائب بيار الجميل، ومعاملات المواطنين العادية، هذا فضلا عن الضائقة الاقتصادية التي تشدّ على خناق جميع اللبنانيين، خصوصا الطبقة الكادحة من بينهم, وهناك عدة فنادق ومطاعم قد اقفلت ابوابها في العاصمة، وتفرّق اصحابها وعمالها في بلدان مختلفة منها القريب ومنها البعيد.

 

ويتلهّى المسؤولون كل يوم بالجدل بين موالاة ومعارضة لمعرفة من هو على حق، ومن هو على باطل. ويختلفون على كل شيء: قانون الانتخاب، وتأليف الحكومة بين الثلث المعطل او الضامن، وتأليف المحكمة الدولية بين ان يتم بموجب الفصل السادس، او الفصل السابع من شرعة الامم المتحدة، فيما خوف الاغتيالات قد أجبر الناس على الاحتماء في بيوتهم، فلا يخرجون منها الا على كره منهم، ومفارز الحماية تسير وراءهم وامامهم.

 

وينتظر مجمل المسؤولين ليعرفوا ما رأي هذه او تلك من الدول المجاورة او البعيدة ليعملوا به، كأنهم اصبحوا مسيّرين، لا مخيّرين، لا رأي لهم شخصيا في ما يعود اليهم من شؤونهم وشؤون وطنهم. ويأتي الزائرون الرسميون، ويبدون اسفهم لما يجري عندنا، كأنهم يتفقدون حال مريض، ويذهبون ويبقى الوضع اللبناني على ما هو. لا شك في ان اللوحة التي رسمناها عن وضعنا قاتمة، ولكننا لن نفقد الامل بتحسينها، اذا عرفنا كيف نرصّ الصفوف، ونسعى جاهدين، بتجرّد واخلاص، في سبيل ما يعود علينا جميعا بالخير والازدهار. وعلينا، قبل كل، ان نضافر الجهود للنهوض ببلدنا، وسننهضه اذا عرفنا ان نشبك الايدي، ونوحّد العمل في هذا السبيل، ذاكرين ما كان يقوله الرئيس كندي: "لا تنظر الى ما بإمكانك ان تأخذ من بلدك، بل ما بإمكانك ان تعطيه". اذذاك يبقى ويستمر ويزدهر ويكون لنا عنوان فخر واعتزاز.

 

لنسأل السيد المسيح القائم من بين الاموات ان يحقق لنا امنيتنا برؤية وطننا، وقد عاد الى سابق عهده من الطمأنينة والاستقرار، وان يعيد عليكم جميعا اعيادا عديدة ملؤها الخير والطمأنينة والامان والازدهار.